الحرب كتفصيل هامشي

يمر اليوم بروتينه منذ تاريخ ولادتي، الوجوه وحدها ما يضيف جديداً يمكن ذكره، قبلاً كنت طفلاً يتراشقه المارة بنظرات الاستفهام عن نوع الكائن هذا، ما زلت نفس الشخص، بصلع أكثر، ولحية توحي بأن الدهر يأكل وجه الغريب.

قد لا يعني للجميع جمع العصي والقائها في سيل يصنعه المطر، كذلك لا تعنيهم هذه الحكايات التي نرويها في سهراتنا ونصوصنا وعلى مفارق طرق جرفها السيل كما ذهبت الطفولة والوجه القبيح مع أول قبلة مواربة، سرية، أو لنقل قبلة بطعم التخلص من قيود كثيرة تكبلك.

أنت لم تستمع جيداً لمن مروا قبلاً، أنت لم تعرف أيّ السنين التي خلت عتقت لك الحزن، خمّرته كأنه الشراب الوحيد الذي به سينكسر حاجز وحدتك هذه.

لن تُكسبك الهمة دون الفعل أي شيء، ستتلذذ بالتفكير بما يجب فعله، أنا حقيقة لا أفكر، لا أجيد هذا النوع من الأشياء، ولا أظن أنني ذلك المندفع، أنا أخاف الخطوة الأولى، ولكن لا أظن أن الطريق ينتظر أحد.

ثمة أفكار تجبر الجميع على البقاء في قوقعة وصمت، الحركات اللا إرادية للبشر عموماً لا تحتسب، كأن تدمع عيناك في موقف شاعري بحت، أو تضحك لأن هناك من مر بكامل خفته أمامك، كل هذا الهراء ليس شيئاً محتسباً في ما بيننا، بيننا وبين أنفسنا على الأقل، الحزن حركة في القلب لا إرادية، ولو فتحت أبواب الفرح كلها، مواربٌ ظل الحزن في كل ما تفعل، حيث لا مفر من ممسكات القلب، كصوت ناظم الغزالي و بحة نور الهدى أو انحسار الكون كله في صوت سليمة مراد، هذه الأمور التي لا فكاك منها، كالرصاصة التي أعدها لك القدر فجعلتك مشوهاً، بقلب يرقص بصمت، لا جدوى من التفكير بها، اشربها كما هي، أو انحسر كخطوة خائفة ليسير فوقك من يجيد السير في الدروب.

الواتي يتقن النحيب، نادبات الوقت، المتعفرات بتراب الدمع ينثرنه هنا وهناك، كلما دنا الفراق والرحيل قرب النوافذ أو أبواب الصدأ.

الطارقين على الأبواب عينها، ملتحفي برودة الأيام والمتلعثمين عند أول الخطايا، الفاقدي شهية الكلام عند ارتجافة الحب، أو أبعد بقبلة أو صفعة.

للتي تحييك أكمام الثوب الصوفي وتمزقه كل ساعة، الباحثة عن الضوء من غربال بلا ثقوب، المتمسكة بأكوام من المجرات التي لم نكتشفها بعد.

لهم وحدهم وهم يراقبون عقارب الساعات اللعينة، لادغات القلوب بطنين الأمور التي ستحصل، كأن يبرد الشاي اللعين، والقهوة اللعينة، والحب اللعين.

لهم وحدهم وهم يمسكون الحناء من أعراسٍ قديمة لن تعود، وأصوات نساء لن تعود، وألوان ثياب داستها الأقوام كلها، حتى القطط التي اعتادت على الأكل في زوايا تلك البيوت، داستها اللعنة نفسها.

لهم ولي ولكم، يا من تقلبون الأغاني بسرعة، خوف الحزن وخوف الدمع وخوف الخوف، وتراقبون الحياة الأخرى من الغربال البلا ثقوب، حيث لا مجال للدمع، كأن تقتلع العيون لتصدأ بحسرة، وتنسى كل هذا لتتعلم النحيب على ما فات، وانت تبتلع التراب، دمعاً كان أم دماً، لا فرق، سيبتلعك كل هذا، ولو بعد حين.

لمرجوحة معلقة في بيت جدي، وأصيص حبق أمام منزلنا، وخابية في دكان أبي شرب منها الكل، ولم تنكسر، كأنها العمر حين يجيء، وعمر أبي حين أفل.

للنجمة التي علقت عليها أمالي بأن أصبح شيئاً يُذكر، مرت بالقرب الفرات واستقرت في القلب، بتفاصيل القصص اليابانية وشخوص لا تُرى جُزافاً، تُرى في القلب، فقط.

للفتاة التي لم تخذل وحدتي فاهتمت بالصباح والوقت، حتى صار الوقت حميماً، صار أقرب من كل شيء لا يُدركه الملعونون بالذاكرة والحزن.

للرفيق القابع في عزلته، ممسكاً أطراف الضحك كسنارة جدتي، يحيك قصصه كمن يتقن رواية المخاوف وقتلها، له وحده حين يجن كل هذا ولا ينكسر.

لخوابٍ في المغترب اللعين، والبلد الذي لم يعد يشبهنا، للمتثاقلين في عودة أو في هروب، للمفقودين تحت طعنات النواح والتباكي، للرواحل أولهم وأخرهم، لرصاص الفرح الذي نسمع عنه ولن يأتي، لطلقات المسدس التي تصبني يوماً، لقذيفة لم تجعلني خابية محطمة فاستقرت بالقلب أجزاء رواحلي كلهم.

إلى الخوابي التي لم تُكسر، أول العمر، وقادمه، هاكم وحدتي، وهاكم اللعنة التي أحب.

هاكم كلمات أخرى يمكن الاتيان على ذكرها في أول العمر، وأول الحب، وأول ما يمكن اعتباره محاولاتنا لجعل الحرب تفصيلاً هامشياً نحيا دونه، ولو بجانبه القريب.

محمد حاج حسين

Leave a Reply