اليوم نحلم. غداً نحلم.

يكفيني لأحيا أن أرى وهج بسمتك وإن مجازاً، لا أعرف عن السفر إلا القليل القليل، أعرف كل حرفٍ كتب عن الغربة والوحشة والبكاء في حلكة الليل حنيناً إلى أحدٍ أعد له الحساء الساخن إن بدت عليه علائم المرض، حنيناً إلى أحدٍ يجبرني على ألا أترك المنزل في حالته الفوضوية أبداً، خوفاً من تغير نظرتك إلي حتى بعد عامٍ من إيقانك بأنني لست أكثر الأشخاص هوساً بالترتيب وبنظافة زوايا تلك الغرف.

ولا أعرف عن مواجهة الآتي قيد ذرة، لا أعرف عن التحديات شيئاً، لكنني أعرف كل شيء عن الحلم: أعرف كيف لم أسهر في خضم المعاناة كما سهرت في رسم لوحاتي عن حياتنا ذات يومٍ معاً، وأعرف كيف لم تنتهِ أي من لوحاتي منتجاً واقعياً، أو تعبيرياً، أو حتى انطباعياً. أعرف أنني استخدمت كل سوريالياتنا مفرداتٍ في خيالاتي، لا أريد لهذه اللوحات أن تنتهي ذات معنىً لأحدٍ غيرنا، ولا أريد أن أسمع ترجماتٍ لها، اللهم إلا تلك الاعتباطيات التي يدعي المتفوهون بها أنها ذات قيمةٍ، سنسمعها ونضحك، وسنعود نحقد على ما بعد الحداثة، ونتغنى بمسلسلات الطفولة، ونلعن هذا الجيل الذي لا يعرف عن العمق أكثر من التيه.

سنعود لآلامنا الصغرى، سنعود لها مراراً لنتذكر أن الحياة أفضل كيفما كانت، لنتذكر ألا عقبة تستطيع دفننا بعد كل الحياة التي تدبرنا أن نعيش بين تلك الآلام؛

كأن نعد القضبان الحديدية أمام زجاج نافذتنا لأننا لا نعرف موعد عودة الكهرباء؛ ستة عشر قضيباً. ربما.
لا أعرف كيف خيل لوالدي أحدهم أن الزخارف النباتية على قضبان غرف أطفالهم كفيلة بإلهائهم عن غرضها الأساسي: ألا يغتالوا ذواتهم سقوطاً حراً ذات مراهقةٍ أو فشل.

أو كأن ننتظر أمام فرن الغاز حتى تصل المياه الدفء الذي نريد قبل أن نعبئها في قنينةٍ ما تمهيداً لوضعها على قدميكِ.
هو ذاته انتظار الصحابة في البرزخ قبل القيامة الأخيرة؛ هم يدركون مصيرهم، وكذلك الله، لكنها البيروقراطيات التي ميز بها الله أنبياءه عن سائر المؤمنين.

أو كأن نحاول المشي دون أن تدهسنا سيارةٌ بلا لوحةٍ، أو بلوحةٍ من أولئك اللائي ولدن في زمن الحرب الكريم.
لا يمكننا أن نقرر أننا لا نريد الموت اليوم؛ للحرب ألف طريقٍ للروح غير الرصاص، ولا شح في الإبداع إذا ما أمعنتِ النظر في تضاريسها كما تمعنين النظر.

أو كأن نبحث عن عملٍ كريم. أن نبحث عن أي رمقٍ أخير للكرامة فينا.
كأننا نرفض الشرب من واحةٍ ألهمنا الله إليها هائمين في عرض الصحارى لأننا لا نشرب الماء إلا بارداً. لا كرامة في الحروب. لا إلا لقمة العيش.

أو كأن نسأل عامل البقالية “أما من أرغفة مخبزٍ آخر؟”، أو كأن نسأل الخضري “أما من خس أقل ذبلانا؟”، أو كأن نسأل الكهربائي “أما من بطارية من نوع آخر؟”
هي سخرية القدر في الحروب؛ أن نهتف مطالبين بخيارات أخرى في سياق واحدٍ في حياتنا، لنجد انفسنا أمام خيار واحد لكل تفصيل في حياتنا أينما التفنا.

أو كأن نخاطر في دوائنا بعد انتهاء صلاحيته إذ اختفى من الأسواق منذ دهر بعيد.
كلنا سنموت ذات يومٍ، ليس انتحاراً، هو بأسوأ الأحوال محاولة يائسة للتشبث بالحياة، ولا التباس في دخولك الجنة من عدمه. مبشرون نحن بالحياة ما بعد الحياة. غالباً.

“والموت هامشيٌ هنا، والحياة نادرة الوجود، والسياحة سياحة حربٍ أو سياحة طبية لمزج الدم بالمخدرات، والغروب أجمل أمام المنازل المائلة استجابةً لصدى طبول الحرب، لكن أحداً لا يبالي بالغروب.”

لا شيء مطلقٌ هنا. كل شيء مطلق هنا. لكنك في بلاد الحرب كما في بلاد السلم، بيضاء أبداً، شفافة أبداً، ولا موت يترك أكثر من خدشٍ عليك. كل آلامنا لا تعني شيئاً أمام الحلم، والخدوش على صفائك أوسمة في وجه سخرية الحياة، أن تبتسمي لها كلما زادتك ضربةً من حيث لا تدرين؛ أن تستيقظي ذات يومٍ بلا ملامح من كثرة الخدوش عليك، ثم أن تسأليني بجديتك المطلقة أبداً: هل نمت بما يكفي البارحة كي تنتج نصاً جديداً اليوم، حبيبي؟

حازم رعد

Leave a Reply