إنها تثلج الآن.. – الجزء ١
في هذه اللحظة تماماً يغلق السماعة موظف استلام الشكاوي، في شركة الكهرباء، يسرق أحدهم كبلاً نحاسياً، وينطفئ الضوء في منزل ما.. فيقبّل رجلٌ ما امرأةً ما. المازوت يصدر صوت تك.. تك.. تك، وهو ينزل ببطء في المدفأة، وحتماً ثمة الآن من قرر رمي نفسه من طابقٍ عاشرٍ.. أو فقط إطلاق رصاصة في رأسه، بينما أمي بهدوء تحرك شوربة العدس على الغاز.
أقف في نقطة محددة، وأفكر كيف يبدو الخط الواصل بين نقطتينا على الخريطة، أحدثك مرة بالتخاطر ومرة بصوتٍ عال، “خطوة للأمام، لا لا إلى الوراء قليلاً،
وجهك لا يتجه للشرق عليك الدوران..
هكذا تماماً..
ها قد رسمنا خطاً مستقيماً بيننا”
أنا وأنت نقطتين على استقامة واحدة في الكوكب الشاسع، نقف كطفلين وضعا زورقاً ورقياً في البانيو، ننفخه باتجاه بعضنا ثم نغش وندفعه بالأصابع، إنها لعبة المسافة التي صارت إدماناً علي هزمه وإلا قتلني، تتجدد كل يوم، وكلما حللت جزءاً منها انكشف آخر، زورقي بطيء وبالكاد يتماسك، وأنت تسند ذقنك إلى يديك في الضفة الأخرى عاجزاً عن مساعدتي.
المدينة هنا لا تبدو كالعروس في ثوب الزفاف كما يقولون كلما هل الثلج، وإن كانت كذلك فهي عروسٌ متروكة في آخر لحظة، أرملة زفاف، عاشقةٌ محطمة، لا أستغرب سوى هذا العدد الكبير من الناس في الباص وفي الجامعة وفي مراكز توزيع الغاز والخبز أو المساعدات الانسانية، أعداد هائلة من السكان قُتلت، أو هاجرت، من أين إذاً جاء كل هؤلاء؟
لا تضحك،
أنا جدية فيما أقول….
فقط لحظة واحدة ريثما أخلع الأكف الصوفية… إنها تزعجني
.
هو مضحك فعلا، أن فتاة بلهاء تحدثك كي تحدث نفسها، وأنها تخرج في البرد القارس مطوقة بالصوف كي تمشي تحت الثلج، ثم تراها تسرع في المشي كالهارب من شيء ما. مضحك أن العالم الافتراضي هو كرتنا الزجاجية، نجلس أمامها كالسحرة وأيضا كالمسحورين، نرى الناس كأنهم خلف بخار طنجرةٍ تغلي، هلاميون، ضبابيون، ثم نترك وجوههم وملامحهم تنصهر مع أصواتهم وضحكاتهم وصرخاتهم، لتصير همهمةً ممزوجة في قدرٍ معاً، ونتفرغ لتفصيل ملامح شخص واحد، ومسح كل الضباب الذي يمشح وجهه.
.
ما هي النكتة السمجة التي تكررها الحياة، فتجعلني وأنا في كامل انسجامي، في نقاء تام، أبكي.. أبكي وأحزن كأنما انقضت الحسرة على قلبي وأخذت تنهشني، وكيف يحصل أننا لسنا معاً، نعرف فقط أننا رُبطنا بخيط واحد ثم قذفتنا البلاد كلاً في جهة..
.
في هذه اللحظة تماماً، تتزحلق شاحنة على الطريق السريع، يضع بائع الميلو كثيراً من السكر في أحد الأكواب ويراقب انتشار المتسولين، الثلج لا يصدر صوت تك.. تك… تك، وأنا لا أرمي نفسي من أي طابق، فقط أفكر في كل الجوارب التي تمزقت، وكل الصحون التي انكسرت، كل القبلات والعناقات والسرقات، التي تحدث في هذه اللحظة.. تماماً
كنت ميتة يومها، لم أعرف كيف أيقظوني، لكن قبائلاً من برابرة كانوا على الشاطئ يرقصون، رنوا بخلاخلهم قرب رأسي، رأسي النابت وحده من الرمال، بينما جسدي مزروع في التراب الأشقر جافاً وحيداً ساخناً، سألتهم أن يقتلوني مجدداً، لكنهم دبكوا وأشعلوا ناراً وهللوا للحياة، فخرجت آخذة معي حقدي على الرمل والنار والخلاخل.
ليته لم يكن سهلاً، أن أنسل بخفة هكذا من الموت إلى الحياة، وأن أحف جلدي بالصخور كأفعى لينسلخ عني عمري السابق، ليته كان صعباً.. كي أمكث في الموت أكثر.
مروة ملحم
Leave a Reply