ما قبل الغرق وقبل القشة
الحقيبة لا قيمة لها بدون المسافر، كذلك المسافر لا قيمة له بدون ذكرياته التي يملأها بالحقائب قبل الرحيل.
لم أذهب كمسافر في البحر يوماً، لم أركب قارباً قط، حتى السباحة لم أتعلمها، تركت نفسي في البر خوفاً من مفترسات في البحر، خوفاً من لعنة القراصنة كلهم.
ولكنني عشت بين أمواجٍ أخرى، وغرق ليس ببعيد.
لا يهمنا مغيب الشمس، نخاف شروق يوم أخر على حزننا، شروق عزلتنا التي تتجدد كلما غابت ملامح الليل.
أخبرتني أن هناك جزيرة فيها كنز عظيم، ما عليك سوى اقتفاء أثر السابقين، السلف!!
أي سلف لا أعرف، تبعت أبي فكنت صامتاً في بحر دماء، تبعت الأديان كلها فكنت ضعفاً تحت وطأة الظلم الذي أتوهمه، تبعت حدسي كان سلفاً لألف مستنقع عشت به، لا كنز ولا جزيرة، قصص الأمهات، الآباء، بطولاتك المرسومة المتخيلة تنتهي حين تصبح ذكرياتك أبعد من كل هذه الأفكار، مجرد فكرة عابرة، كنز عظيم لا تطاله.
لا سلف قبل أي واحد فينا، أنت صناعة نفسك ولو كثرت أزاميل مكونيك، مشكّلي ملامحك.
تحاول جاهداً معرفة الدرب، تجلس لأيام تحاول فهم الخطوة وما بعدها، ولا تخطو، خوفك من المجهول ما إن يبدأ لا ينتهي، كذلك بحثك عن ضالتك، عن تيهك المشتهى.
همستُ لها، لا ترحلي، لا يتركن العطر ولا يأخذنه، كأن الرائحة التي تنبعث منهن في كل لحظة فراق هي مجرد خفقة قلب لا تنسى، كصوت الحياة بعد عزلة الغابة ، يأتيك، تتمسك به ، يحتضنك ، كأنك حزن المدن ، أو ضحيتها القادمة ، أنت الذي تحب المدن كفتياتٍ لا يتركن العطر ، يتركن ظلك والمكان ، ورنين الكؤوس.
لم تذهب يوماً للبحر، لكنها تخافه، لم تذهب لأي مكان سوى منافينا المتنقلة كأرواحنا التي لم تعرف طعم الراحة، كروحها، الأمهات مجرد حرائق صغرى تكبلك، تضعك دائماً في أقفاص هم، ولو كانت بلا حدود.
ما الذكرى؟
ورقة غار لا يختفي عطرها، دمعة غائرة في القلب لا تنتهي، طعم ملح لا يزول، على الجرح والدمع والفرح.
بوصلة لا تشير سوى للألم، الراحة ساعة والحزن دهراً.
ما الحقيبة؟
دعاء أمهات، مواويل قرية، أشعار وخصل شعر، وكمشة صور مهترئة، وأفكار أخرى عن الدرب، أفكارك التي تقودك دائماً للانتحار .
كلما قررنا الرحيل ازداد تشبثنا بالمكان، المسافرون دائماً يخافون ضياع الحقيبة، يمكنهم فهم كل الأمور ما قبل الرحيل، ولكن لحظة واحدة من دمع تكفي لقتل أفكار الراحة التي رُسمت ولو لساعات، الفراق حقيبة حرائق لا تبقي ولا تذر.
كل الحكايات عن البحر والغرق، عن الطائرات والتحطم، عن السيارات والانفجار، لا تثني المسافرين بلا حقائب عن الغوص في عمق مغامرة، الحقيبة عبء رحلة لا يلزمك في الضفة الأخرى، طالما تعرف بأن الدرب يبدأ برغبة ملحة بالحياة، تكفيك هذه القشة لتنجو، تكفيك لتفهم أنك سلف غامض لجيل قادم، وحكاية ما قبل نومٍ لكل طفل لم يكونوا بارتيابك هذا، وقلقك المستمر من الحقائب المكتظة بحكايات لم تنم بعدها.
سوريا درس في المعهد
Leave a Reply