هارمونيكا

قبل عام واحد من الآن لم أملك ربع الأمنيات التي أمتلكها في هذه اللحظة، لم يكن هذا التطور المفاجئ ارتفاعاً مباغتاً في مستوى الطموح لدي، ولم يكن اليوم عيد ميلادي البائس بكل تأكيد لأنفخ أمنياتي بتهور فوق الشموع الملطخة بالكريما المخفوقة، كان ذلك مجرد جزء صغير من عالمي الجديد الذي يحضن عظامي بقسوة دون رغبة مني في معانقته … يا لها من حياة سخيفة، إنها فعلاً كذلك !

أمسكت الهارمونيكا الصغيرة بيدي، إنها آخر ما تبقى لي في هذا العالم، أنا وهي وسط هذه المعمعة التي لا ترحم أحداَ، أنا وهي معاً في جوف ليل مستمر صامت، لطالما كرهت هذه الهارمونيكا العتيقة ككرهي للحروب التي وجدت طريقها إلى حياتي أخيراً، لم أبرع يوماً في العزف عليها، ربما لم أتوصل بذكائي المحدود ومهاراتي الصبيانية الخشنة إلى آلية عملها كما ينبغي، قربت فمي من أحد ثقوبها الجانبية المسالمة، صممت في عقلي الهلامي على نغمات معينة، تراتب بسيط للنفخات بانتظام ليس إلا، لكنني أدركت بتفكير بسيط أنه لحن مستحيل ذاك الذي أبغيه، أطلقت صافرة طويلة أحادية الاتجاه نحو زاوية اللاعودة، ثم توقفت.

لم أشعر بشيء، كان ذلك عادياً، تأملت الهارمونيكا من جديد، لم تكن تحفة فنية أو ما شابه، قطعة عادية جداً كأي هارمونيكا في أفلام الرسوم المتحركة الكلاسيكية، كنت أحب لونها الخمري الداكن، فيه شيء من سمو الصمت، ترفع نبيل عن سفاسف الحياة اليومية أو ما شابه ذلك، صفات لم أكن أتحلى بها بطباعي وضيعة المنبت، وبالتأكيد لم يكن لوناً يشي بنغمات معينة كما لو كان فاقعاً كالأصفر مثلاً، إنه فقط ينساب دون انقطاع بسكون كشعاع من ضوء القمر في ليلة صيف.

ابتسمت للحظة، سيكون رائعاً لو كان نور القمر خمرياً داكناً، لطالما كرهت القمر أيضاً، لم أفهم يوماً سبب رومانسيته المزيفة، فهو أقرب إلى أفلام الرعب في مقابر تعج بالأشباح والهاربين من جحيم العالم الآخر، ازدادت ابتسامتي وأنا أتأمل القمر فوق رأسي، كان جميلاً إلى حد ما، حسناً لم يكن قمراً كاملاً، كان نصف قمر فقط، وكانت ليلة غريبة تجمعني أنا وهارمونيكا عتيقة ونصف قمر أبيض كقطعة من الجبنة المالحة.

لن أفكر بالجبنة الآن، لكن شطيرة صغيرة دافئة منها ستكون رائعة تحت ضوء القمر مع لحن هادئ ينساب من هارمونيكا قديمة، لكن لحظة واحدة، لن يتحقق شيء من ذلك بالتأكيد فأنا لا أجيد العزف علي الهارمونيكا، أوه ونسيت أيضاً أنني لا أمتلك أي جبنة الآن، حسناً، مازال لدي ضوء القمر على الأقل، ليس قمراً كاملاً للأسف، مجرد نصف قمر شاحب سخيف، لكنه يفي بالغرض.

نصف قمر واحد فوق العالم بأسره، يبدو ذلك سخيفاً لكنه يربطني بكل من ينظر إليه الآن، تماماً كمرآة سحرية في الحكايا القديمة، أو كشاشة هاتف محمول في حكايا العالم القادمة، نظراتنا تلتقي وقبلنا تنتقل حول العالم بسرعة الضوء، هذا يبدو سيئاً أليس كذلك، أنا حالم سيء لا أجيد الخيال، أعي ذلك، فأنا في النهاية لا أعزف الهارمونيكا.

أمسكت الهارمونيكا من جديد، كانت آخر شيء بقي لي من أمي، وكانت أمي آخر من بقي لي من عائلتي، رحل الجميع فجأة وبقينا أنا وهي والهارمونيكا، كانت تدرك أنني موسيقي فاشل منذ النظرة الأولى إلي، لذلك لم تهدني إياها كبقية الأمهات، كنت أكره عزفها الجميل ذاك في حديقة منزلنا القديم، كان علي أن أنتظرها حتى تكمل لحناً طويلاً بليداً كل ليلة في الصيف قبل أن أطلب منها شطيرة جبنة ثانية، كنت طفلاً شرهاً للغاية، لكنني كنت لطيفاً أيضاً، لم أقاطعها البتة في حياتي، كنت أنتظرها حتى تبعد شفتيها الرقيقتين عن الهارمونيكا متمتعة بلحظة صمت قدسية روحية ربانية، بعدها كانت تلتفت نحوي ببطء لتقبل شعري المنكوش، تماماً كحالته البائسة الآن، تحسسته يداي بحركة روتينية آلية، لا أعتقد أن تصفيفه سيجذب نحوي الفتيات، لا توجد عاقلة واحدة على الأرض يمكن أن ترمقني بقليل من الإعجاب، فأنا ما زلت لا أعزف الهارمونيكا، وربما لأني كنت طفلاً شرهاً فيما مضى، لا أدري حقاً.

أعدت الهارمونيكا إلى جيب سترتي، رمقت الخراب المحيط بي، كان جميلاً مثلما عهدته، هنا كان منزلي القديم، لم يبقى منه شيء بالتأكيد، حتى أني أشتم رائحة ذكرياتي المحروقة تفوح حولي، أراهن بحياتي أنها رائحة ذكريات محروقة وليست رائحة لحم بشري متفحم، صرت قادراً على التمييز بينهما أخيراً، كانت الأولى أقوى من رائحة البارود التي تلف الثانية، لست خبيراً بأسماء القذائف الحديثة لذا أختصرها جميعاً بالبارود، ما زلت في داخلي طفلاً يحب الرسوم المتحركة البسيطة، شددت أصابعي على الهارمونيكا العتيقة كي لا أنسى شفتي أمي وطعم شطائرها الدافئة مثلما نسيت كل شيء آخر، صفرت اللحن الذي كانت تعزفه من قبل تحت ضوء القمر، ورمقت نصف قمري برجاء يائس كي يبحث لي عنها بين العوالم التي ينيرها، فمن يدري بأي حال، ربما يكون القمر كذبة أخرى ككل شيء عشته طوال حياتي وليس مجرد صخور تضيؤها الشمس من بعيد، أجل ربما يكون مرآة سحرية تجمعنا معاً دون أن ندري، وهو ما أرجوه من أعماق قلبي.

ابتسمت ببلاهة والأمل الطفولي يترعرع في داخلي بغتة، حدقت في القمر وخيالي الضعيف يراه متوهجاً بألوان سحرية براقة، لم ينفع ذلك في شيء فهو في النهاية قطعة جبنة كبيرة … لا أنت جائع فقط، إنه فقط صخور كونية معتمة … لكنه يشع ببريق خافت في جوف الليل، ألا تراه … هذا لأنه يعكس نور الشمس أيها الأبله … إذاً هو مرآة سحرية … لا مجرد مرآة كبيرة، مرآة مكسورة مهشمة الحواف، أعتقد أنها لعنة من نوع ما … إنك تخيفني الآن … لكنها الحقيقة للأسف … لست متأكداً، لم أفكر بهذا من قبل … معك حق، ينبغي عدم التفكير في أمور كهذه، إنها تجلب سوء الحظ … تلاشت الأصوات في داخلي وساد الصمت كافة عوالمي، تمددت في مكاني رغم قسوة الأرض، ولم ألاحظ الغيوم الأخيرة التي حجبت القمر عني إلى الأبد.

وليد بركسية

Leave a Reply