اسفلت

كان علينا في ذلك اليوم الكارثي بتر أقدامنا، أو على الأقل هكذا ظننا، ونحن ننظر للعجينة السوداء الحارّة التي بدأت تمتد فوق ملعبنا الترابي، فوق ذاكرة أيامٍ قضيناها فوق هذا التراب، تلك العربة التي تنشر على طول الطريق، أحجار السواد الحارة، تعبد درب لعبنا، منبتنا الأول.

كنّا غالباً قليلي خروجٍ للعب بسبب طينٍ لا ينتهي، شتاءً لكثرة الأمطار، وصيفاً لكثرة الغسيل والتنظيف، نفرد وحدتنا في غرف تضم أنفاس العائلة كلها، ننام والتصاق الحزن بالقلب أشد من التصاقنا بالفراش الذي يفوقنا وزنا، كنا أشبه بأصابع يد لا يمكن فتحها، كنا أشبه برقاقات في صحن يدور على مائدة ليست لجياعٍ مثلنا، وغالباً ما يرمى في القمامة.

دزينة أولاد في كلّ بيت، لا يتوقف الجميع عن الانجاب، العد يبدأ من الكبير، ولا ينتهي الا حين تصبح الأمهات جداتٍ، يضعن الحناء على شيب الشعر، شيب القلب، حناء على أيدي الجميع، كعجينة اسفلتٍ امتدت في يومٍ جحيمي، أجبرنا على بتر أقدامنا والجلوس بخرسٍ وعيون الدهشة.

كان أولاد “الهلالي” ولا أعرف لماذا أسموه هكذا، الوحيدين القادرين على اللعب على الإسفلت بحرّه، تركض نجوى ويتشقلب عمر ومازن فوق السواد بأقدام حافية، يتمرغون كأنهم المدحلة التي تسوي تلال الاسفلت، سجاد سواد، يقومون بحركاتٍ دورانية  كلفائف تبغ تحركها الريح.

قيل بأنهم موبؤون، ولديهم أمراضاً معدية، حقيقة أن ما يقال في الحيّ ويتناقله الناس، يصبح حقيقة راسخة، حين يُقال أن فلاناً لا يعني لنا وجوده، يغادر الحيّ كأنه شيطان تم طرده من جسد فتاة مسها، فأصبحت على عكس ما كانت، إلا أنّ الحي كان المكان الأقدر على المس، وجعل كلّ شيء ملعون، بهمس أو وشاية، أو اقناع صغارٍ بأن أولاد فلان، بهم وباء.

لم نكن نعلم أنّ هذا البساط الأسود، ضرورة حياة لنرتقي، كلّ ما فكرنا به هو “الحواليش” التي طُمرت، القطط والعصافير والصيصان اللاتي صنعنا لها قبوراً هنا، مدافن مصغرة لكلّ شيء، أخذها السواد، اسفلت البلدية اللعين.

كان أولاد الهلالي أشبه بحبة بازلاء خضراء، إذا ما وقفو بجانب بعضهم، لا تستطيع تمييزهم عن بعضهم، لولا ندبة في وجه مازن، ونهدي نجوى البارزين منذ العاشرة، وكان الجميع لا يشاركونهم أيّ شيء، ثمة قبح فينا يمنعنا من مشاركة القبيحين أيّ شيء، حتى اللعب على الاسفلت، وشجاعتهم لامتلاك هذه السجادة السوداء، حين خوفنا.

كانت نجوى في بداية لقائنا بهم، حيث كعصابة حيّ قبيح، نحاول فرض سطوتنا على الوافدين الجدد، لا أذكر متى رأينا “الهلالي” وعائلته يصلون الحيّ، لا أدري هل كانوا سكاناً من قبل، ولكن في اليوم الذي أجبرنا من قبلها على عدم الاقتراب، كانت ذاكرتي عن وجودهم، حين حاول أحدنا ارغام الثلاثة على شيء أشبه بتحدٍ قذر، بأن يشربوا من البركة الوسخة، أذكر أنّ نجوى انهالت ضرباً وشتيمةً له دون حراكٍ من اخوتها، أو من أحدنا، وضعت رأسه في البركة وأجبرته على الشرب، وكانت آخر مرة اقتربنا بها مسافة بركة مطر من أولاد الهلالي، مسافة شتيمة “نجوى”.

حين بدأنا نكبر، والعيون تراقب من وحدتها كيف يكبر أولاد الهلالي فقط، لم نكن ننظر في المرايا، لم نكن نرى تشوهاتنا التي تكبر، السيارة التي بدأت تمتلئ بحياة وتفاصيل العائلة التي نكره، كانت إذن الخلاص لنا.

صوت زمور السيارة حين هدر، أيقظنا جميعاً، كلّ الحي بات شبابيك وجوه تراقب رحيل جيرتهم، لن تعني لهم أي نظرة بلا تلويحة وداع، لم أفهم يوماً لماذا نكره بيت الهلالي، كان كرهاً ممنهجاً من قبل الجميع، متوارثاً، كانت تمر السيارة من أمام منزلي فوق الاسفلت الذي سرق طفولتنا، اسفلت المغادرين أولاد الهلالي، كان آخر ما رأيته، الثلاثة ينظرون من الزجاج الخلفي للسيارة نحو الاسفلت والبيت، ولا دموع.

حين خرج الجميع، وأصبحنا أصحاب الاسفلت وسواده، كان كلّ شيء بارداً، صعقتنا برودة الأرض التي نسج لنا الأهل صورة جحيم إذا ما وطئناها، بات يتسلل لنا إحساس بأن فراغ المكان من أولاد الهلالي سبب برداً أمسك الجميع، إلا أنه لم يكن للإسفلت ولا يباس عجينة السواد هذه دوراً في هذا، كان خوفنا من الرحيل، خوفنا من أن نصبح صورة لثلاث أولاد في مؤخرة سيارة تتهادى على اسفلت لعبهم.

مضى عشر سنوات على رحيل عائلة الهلالي، وخمس طبقات من الاسفلت، وما زالت أقدامنا مبتورة، ولنقص في الصدق ونقص في الحب، كنت وحدي أدفن في كل طبقة عائلة ترحل من الحيّ، أنظر لهم من شباك غرفتي، حيث كلّ شيء متاح إلا الخطوة، كلّ شيء إلا قدماي اللاتي دفنتا في طبقة اسفلت بعيدة، لعلها قدر الله، أو خوف أولاد الهلالي، والجميع.

 

محمد حاج حسين

Leave a Reply