إنها تثلج الآن.. – الجزء 2

في آذار كل عام أموت، كي أولد في نيسان طرية دبقة، كي أفوت عصر الزهور وتفتق اليراعات و غزو الحرير، في آذار أودع مملكةً وأنسج أخرى. كذبة فوق كذبة، نسياناً فوق نسيان، أبصق دمي وأشرب ماء مخلوطاً بالنبيذ وبنسغ السحرة ورماد طيور اللقلق، أشربه مراً، مراً كدمع موحل، ثم أراقب دمي الجديد يصير حلواً، وهماً فوق وهم.

***

كان لي أهل وإخوة، كان لي..

لم أعد أذكر

لا أذكر كيف كنا أنا وأخي نلوح للغرباء، ونتدلى من شرفة المنزل بانتظار الأقرباء، لم أعد أذكر، كيف مت قبلهم، وكيف في الخيال بيت مخلع الأبواب كان بيتي، وكيف الكوابس تفز من صدري كلما سحلتني غفلة إلى عمر مضى، أنا أرملة شرفات دلقت حلمها وصرخت ثم ماتت.

***

ها قد درزوا أغانيهم على ثوبي، كأن شيئاً لم يكن، هاد قد ركضت ثمانين يوماً لأوفي نذر الموت وأقبل خصماً لي اسمه الحياة، في لعبة الحياة، رهانه الحياة.

ها قد ربحت.

ربحت قبواً مظلماً أستريح فيه، وعصىً أدق بها برتابة على تابوت الحياة.

منذ حوالي ست سنوات، دخلت هذه الفقاعة الكبيرة، ستتخيلون بعد كلمة “فقاعة”، جسيماً لطيفاً شفافاً يتلون مع الضوء ويطير وحين يمر قربكم تنفخونه وتضحكون، حسناً، لا بأس فأنتم جزء من الخدعة الكبرى..

الفقاعة ليست كذلك، وتلك التي تعرفونها تسمى بالوناً، خليطاً من صابون وماء، أما ما أنا فيه، فهي فقاعة سوداء، مصنوعة ربما من بخار السيارات وآثار زيت القلي العالق على أسقف المطابخ، ومغلقة من الأعلى بمسدسين متشابكين، معلقة فوهة الأول بزناد الآخر، أي محاولة لفتح الفقاعة ستؤدي لإطلاق النار على الرأس مباشرة.

منذ ست سنوات، مددت قدمي أتحسس جدارها المرن، فجذبتني إلى الداخل كرمال متحركة، جلست صامتة في البداية، شاهدتكم من الأعلى، لوحت لكم، بعضكم رآني ونفخني قليلاً، بعضكم ابتسم بشكل عابر ومضى، بعدها صرت أحاول الوقوف، في كل مرة صرت أترنح وأسقط، وأعاود الوقوف، بدأت أخبط بيدي على الجدران، بدأت أصرخ، لم يسمعني أحد، عاد الصدى فقط ساخراً كأنه صوت شخصية كرتونية، حاولت ثقبها بأظافري، فلسعني شيء أشبه بالكهرباء، حينها فقط تكورت على نفسي وبكيت، بكيت بصوت عالٍ على غير عادتي، بكيت ولم أمسح وجهي بأكمامي أو بطرف ثيابي، أردت لدموعي أن تنهمر على هذا العالم، أردت أن أثير انتباهكم بحزني، لكن لم يحدث شيء،  تزحلقت الدموع وعادت باتجاهي، وفي الحر تبخرت وغيمت فوقي، ثم أمطرت مطراً صيفياً سخيفاً.

الآن لم أعد أكترث بفعل شيء، أراقب فقط، لا أضحك ولا أبكي، وفي الأيام القليلة التي تحط فيها الفقاعة على الأرض، أحاول دحرجتها بجسدي، ولمسكم، ثم أستهجن هذا الشوق الذي يجتاحني، هذا الحنين المزيف الذي لا أعرف من أين جاء. ويصبح التفاهم مع نفسي صعباً، وأشعر بأن جدران فقاعتي تراقب تصرفاتي، تراقبني كيف سأجرب الخروج مجدداً، كي تبدأ بالتنطط بعنف وسحقي بداخلها، لطالما شعرت أن صوت قفزاتها شبيه بالقهقهة، لطالما عدت للتوسل والنحيب والصراخ.

الصراخ بوجه العالم، العالم المكتظ بالسجون والطغاة، طغاة صغار وكبار، العالم الذي يحدثنا وفمه ممتلئ بالطعام، الذي يجيبنا من خلف ثقب صغير مريب. ويضع أسئلتنا في صندوق الشكاوي حتى تهترئ وتتحلل كلماتها.

العالم الذي يرمي حباله علينا كرعاة البقر المكسيكيين، يمسك أقدامنا ويجرنا فوق الصخر والرمل والقذارة، العالم الذي ليس عالماً، بل مسرحاً نتناً، صدق أبطاله جملة نسبت لشكسبير، “العالم مسرح ولبعضنا أدوار حزينة”. لكن من وزع أدوار المقهورين؟ المختطفين إلى قن، النادمين على كل شيء وعلى لا شيء!

كتبت كل هذا على خرقة مزقتها من ملابسي، أفكر برميها قبل وصول الرصاصة إلى رأسي، ربما أجد بعد أن أموت تفسيراً لما حدث، ربما تبحثون عن المحتجزين مثلي وتخرجونهم.

كم تحتاج من الحزن كي تكتب، كم بالإمكان أن تجمع حزنك في صباح تشريني واحد، لتجعله صخرة تأكلها ورقة كما في ألعاب الأطفال، ربما أن تفتح صدرك لخريف حمص المتردد، حين ينقلب شتاء فجأة، وأنت تحت الرذاذ ترفع إصبعاً للباص الذي تعرف أنه لن يقف لك، الباص الممتلئ حتى حنجرته، كما كل شيء في هذه الأرض موشك على الصراخ، يمر وأنت بكل مناعتك ضد الخذلان، تحزن، تجر أقدامك على الحصى المبللة وتهرب من وجهك في واجهات المحلات.

مر زمن كانت أمهاتنا يطوقننا بالصوف ويرسلننا محشوين بالوصايا إلى المدارس، مضى ذلك الوقت، فقط كبرنا لنصير أطفالاً تعساء، حريصين ألا تنتبه أمهاتنا لذلك، وألا نعكر الأصوات الطالعة بزخمٍ من مدارس الأطفال في الطريق، وأن لا نسير جنباً إلى جنب مع صراخ المعلمات في الصفوف، كل شيء رمادي، الشتاء عليه تحريك الأشياء فقط، الأشجار تلوح كالدخان، الأوراق تطير كالماضي، الحجارة حزن كبير لم يُكتب.

منذ متى لم أبكِ؟ منذ أن أحببت آخر مرة ربما، الدمع يتحجر في العين قاسياً كأنه رصاص، بحاجةٍ لشيء شرسٍ مساوٍ لإطلاق الرصاص كي أبكي، ربما أن تصطك أسناني في قتل ضحية ما، ربما أن أصير بالكامل ذئباً ، وأن ألتهم كل شيء حتى الضباب، رغبت بذلك بينما في ساحة سيارات التكسي قال سائق لآخر: “جرب تاكل متلي صندويشة شوكولا والله ولادي علموني” ثم ارتج ضحكهما عالياً.

كان جيداً لو قتلت كل الذين داسوا القلب و مضوا، أو لو مزقت القلب ذاته الذي ظل محتفظاً بطبعة أحذيتهم، كانت النقمة كافية لأصير إعصاراً وأقتلع لطخات الفراق التي بقينا نتمرغ بها.

كل ترف الأسئلة التافهة التي لا جواب لها، كل الوقت الذي ضاع في تعلم الكلام، كي نكون بهذا العجز عن قول ما نريد، كي نرضخ لذل الأمكنة، تلك التي لا تدخر لنا الإهانة، فقط اطلب شيئاً بسيطاً كي يصير حلماً، كي يأخذه الجميع إلا أنت، وزع أشلاءك على الأحبة و اتركهم يمضغونها، ثم تمشى مع حسراتك أول تشرين.

مروة ملحم

Leave a Reply